فجر القرن العشرين


لم يكن موضوع حلول القرن الجديد مهمًّا للعديد ممّن عاشوا في حقبة مييجي، العام 1901 في التقويم الميلادي هو بداية القرن العشرين والذي يوافق العام الـ34 في حقبة مييجي في اليابان والذي لم يكن بتلك الأهميّة كذلك.


مضت أكثر من 30 عامًا منذ استعراش مييجي، وصارت قنازع السامواي وسيوفهم شيئًا من الماضي، وصار تأثير الحضارة الغربيّة حاضرًا في كلّ مكانٍ تقريبًا.


كانت كلمة "قرن" جديدة وغير مألوفة ولكنّ هذا جعلها تنتشر بين النّاس كالنّار في الهشيم، فمثلما فعلت شركة "موراي وإخوانه" حيث باعت سجائرَ تحت اسم "القرن العشرين" احتذت  عدّة شركات أخرى حذوها واستغلّت هذا الاسم لصالح منتجاتها ولهذا نجدها قد استُعملت بكثرة في الإعلانات والترويج.


كان معنى "القرن العشرين" ملغزًا ولكنّ كونها عبارة دعائيّةً قويّة وموضع كلام الكثيرين جعل منها لفظًا رائعًا بلا شك، إذ هكذا كانت اليابان تحقّق استفادةً كبيرة من الأشياء الجديدة والتي تثير اهتمام النّاس. عبارة "القرن العشرين" عندما يلفظها العوام تُشعرهم وكأنّهم وُلدوا في زمنٍ جديد مثلما كان تأثير تسريحات الشعر الجديدة التي ظهرت في حقبة مييجي والتي كانت دليلًا على حضارةٍ جديدة.


"القرن العشرون" لفظ جديد والألفاظ الجديدة تحمل قوّةً لا يستهان بها، حينما يتكلّم امرئ عن أنّه فعل كذا على نهج القرن العشرين فأيّ شخص يفعل الأمر بغير ذلك فإن هذا من شأنه أن يجعله حبيسًا للماضي والزمن عفا عليه، فمثلما كانت أعلام الإمبراطورية ترغم أعداءها على الاستسلام فور رؤيتهم إيّاها أثناء حرب البوشين، صار العديد من الشباب يناصرون أفكار الطبيعانيّة والنّسوية بشعارات القرن العشرين بيد أنّ المجتمع المتحفّظ يسخرون منهم ومن عباراتهم قائلين " يا أبناء القرن العشرين!"


❀❀❀❀


كان أوّل عامٍ في القرن العشرين، والنّاس يتلون دعاءهم ويعطون التوسو (وهو نوع من الساكي المنكّه بالتوابل) والأوسيتشي للرهبان الزوّار في معبد صغير يدعى معبد زينشوكو في أوتسو في محافظة أومي محتفلين بعطلةٍ كالعادة وما من أثرٍ يلحظ للقرن الذي حلّ.


عندما أنهى كيهاتشي ساكاموتو ابن كبير القساوسة والذي يكاد يبلغ عامه التاسع  مساعدة أبيه، ذهب ليدعو خلف المعبد وانضمّ إليه أخوه سيروكو بابتسامة كبيرة.


" هل رحّبت بحماسةٍ بالقرن العشرين؟"


فردّ كيهاتشي "حيّيتُ أسلافي بمناسبة حلول العام الجديد" محرّكًا رأسه جانبًا " كنتُ أتساءل منذ وقت طويل عن ماهية القرن العشرين."


" أتشعر بالفضول تجاه القرن العشرين؟ "


جلس سيروكو بجانب أخيه مرتعدًا من شدّة البرد رغمّ أنّه يرتدي كيمونو مبطّنًا، سيروكو كان سيبلغ عامه الـ18 الشهر المقبل، وابتسامة جميلة واسعة تزيّن وجهه والشباب مفعم في عينيه.


" يتضمّن القرن 100 عامٍ ومضى 1900 عامٍ منذ ولادة المسيح، وهذا يجعل هذا العام بداية القرن العشرين"


" لمَ يستعمل النّاس هذا التقويم المعقّد؟ "


" لا أعلم حقًا ولكن القرن يعدّ مدّةً زمنيّة طويلة والتكلم عن الحقب الزمنيّة فيه أعمّ وأشمل، فإن خاض المرء في قرنٍ عديدًا من الحروب فسنسمّيه قرن الحرب وإن تطوّرت فيه الصناعة فسنسمّيه قرن الصناعة. "


" إذن بمَ سنسمي القرن العشرين؟ "


" حسنًا، قد يعطيك هذا بعض الأفكار " أخرج سيروكو قصاصة جريدة من جيبه وناولها لكيهاتشي


" اقرأها، إنّها مقالة عن توقّعات القرن العشرين " تضمّنت القصاصة مقالةً تحت عنوان " نبوءات القرن العشرين"


" الهواتف اللاسلكية متطوّرة كفاية لتتيح لك الاتصال بنيويورك من طوكيو، وقطار مكيّف يحمل الركاب على متنه من طوكيو إلى كوبي في ساعتين ونصف فقط."


تضمّنت المقالة 23 توقّعًا، تتمحور جميعها حول تطوّر التقنيات.


" مكتوب هنا أنّ الكهرباء ستستعمل مصدرًا للطاقة بدلًا من الفحم والخشب، ما معنى ذلك؟ " سأل كيهاتشي أخاه.


" الهواتف والقطارات وأجهزة التبريد والتسخين والكاميرات كلّها تعمل بالكهرباء."


الـــكهرباء...


كانت كموضوع القرن العشرين، غريبةً عليه...


عندما تفكّر في الكهرباء فإنّك ستتخيّل لوحة توزيع كهربائيّة ولكنّ أغلب النّاس لا يمتلكونها، فحتّى هذا المبنى كان يعتمد على مصباح زيتيّ في الإضاءة. فلمّا ذهب ليرى أوّل مصباح كهربائيّ في أوتسو رفقة شقيقه سيروكو منذ 4 سنوات قد ذُهل بضوءٍ أشدٍّ من ضوء مصابيح الزيت والشموع، حلّ عصرٌ ينيره ضوءٌ لا يبعث دخانًا ويشغّل آلات.


" هكذا إذن! القرن العشرون هو قرن الكهرباء، صحيح؟! " كانت تعابير سيروكو بالية ولكن سرعان ما ضحك حتى بانت نواجذه البيضاء.


"أصبت، إنّ القرن العشرين هو قرن الكهرباء. "


" أودّ كتابة بعض النبوءات بخصوص القرن العشرين كذلك! "


كتب كيشهاتشي بخطّ يده غير المصقول على جزءٍ من كتابٍ تضمّن أسطرًا من السوترا والأدعية ولمّا أنهى الكتابة قرأ سيروكو ما كتبه.


" 1: عباءة مضادّة لليل: عباءة بأنوار تتيح لك التجوّل ليلًا دون حاجةٍ إلى مصباح "


" اكتب المزيد! " ألحّ عليه فأضاف توقعين.


" 2: كاميرا الأرواح: تستعمل الضوء الكهربائي لتلتقط صورًا لأرواح الأسلاف "


" 3: مسدس البرق: ينقل النّاس أسرع من البرق "


ضحك سيروكو عندما قرأها، كان ردّ أخيه الأصغر: "لا تقرأها إن كنتَ ستسخر منّي!" محاولًا إخفاء ما كتب ولكن سيروكو أمسك كتابه


" انتظر، دعني أقترح اسمًا لهذه النبوءات "


بدأ سيروكو الكتابة على تلك الصفحة دون طلب من كيهاتشي المحبَط.


" ممّا قرأتُ تبيّن لي أنّك مهتمٌ بالكهرباء ولهذا قرّرتُ أن أكتب هذه" سلّم سيروكو الكتاب لكيهاتشي بعد أن أضاف شيئًا على غلاف الكتاب.


" دليل الكهرباء: كان هذا عنوان نبوءات كيهاتشي.


" إذن سأكتب عن نبوءات الكهرباء هنا، 20 توقّعًا بخصوص القرن العشرين."


❀❀❀❀


مضى عامان مذ تلك المحادثة بين الشقيقين، والعام الحالي 1903. كان كيهاتشي جالسًا على أرضية المخزن يقاسي شدّة حرّ أوّل أيّام الصيف وكان باب المخزن مغلقًا بإحكام والفراغات المحيطة به قد سُدّت ولهذا كان داخل المبنى رطبًا هادئًا. بدت الدمى وقطع الأثاث القديمة ومجسمّات آلهة البوذا وكأنّها وحوش تتربّص في الظلام مستعدةً لتنقض، ولهذا كان كيهاتشي جالسًا متّكئًا على الحائط مغلقًا عينيه ويتنفّس بصوتٍ عالٍ.


ترك كيهاتشي محلّ جلوسه إبان فتح بابيّ المخزن فجأةً فأنار النّور الساطع أرجاء المكان.


" يا ابن القرن العشرين! لمَ تتسكّع في هذه الحجرة الحارّة؟" دوى صدى الصوت في أرجاء المكان وعندما فتح كيهاتشي عينيه قليلًا رأى سيروكو واقفًا عند باب المخزن.


" لمَ أنت هنا يا سيروكو؟ ألست تعمل في المحلّ؟ "


" سُمح لي باستراحة كالعادة، هل أقفلت المخزن على نفسك مجددًا؟"


ردّ كيهاتشي موضّحًا: " غضب منّي والدي عندما سرحتُ أثناء العمل" ..


" لا حقّ لذاك العجوز أن يغضب هكذا لا سيّما أنّ أميدا-ساما كريم بحق "


" أنت لا تؤمن أساسًا بالجنّة أو بالبوذا! "


فردّ سيروكو ضاحكًا : "لا أومن بما لا أراه "


لم يؤمن سيروكو قطّ بالآلهة أو بالبوذا رغم أنّه وُلد ونشأ في أرجاء معبد، ولهذا السبب في العادة هو ووالده كوماغورو (اسمه بالبوذيّة إنكي، والذي كان قسًّا في معبد زينشوكو) يتعاركان عادةً، ولهذا من بعد أن تخرّج في مدرسة التجارة في أوتسو، ترك سيروكو البيت وصار يعيش ويعمل عند محلّ لتماثيل البوذا يديره عمّه في كيوتو، ولهذا لم ير مذ مدّة كيهاتشي أخاه الذي ندرت زيارته للبيت.


قال سيروكو متأمّلًا: "على كلٍّ، غريب عليك أن تسرح أثناء العمل..."


" كنتُ أفكّر عن ماهيّة الجنّة "


أميدا نيوراي أو أميتابها، أهمّ معبودٍ في معبد زينشوكو، والذي يُعرف كذلك ببوذا الضوء السرمدي ويقال إنّه قادر على إنقاذ النّاس بضوئه أينما كانوا ولو كانوا في أحلك الظلمات، أمّا الجنّة عنده فتعرف بـ "أرض الطهارة البوذيّة" وتبدو له مكانًا يتجرّد من المعاناة وفيه العصافير تزقزق وضوء أميدا نيوراي ينيره كلّه.


يصوّر رواق المعبد الذي يضمّ صورًا للبوذا الجنّةَ ومزيّنٌ بزخارف ذهبيّة بديعة، كان كيهاتشي يوميًا يعمل في ذاك الرواق رفقة إنكي صباحًا ومساء، ولكنّه سرح كثيرًا هذا الصباح مفكّرًا في الجنّة، وكان هذا يسيء بالدين الذي يعمل تحت لوائه.


رأى سيروكو فجأةً أن كيهاتشي كان يمسك بشيء قرب صدره فأمسكه وأبعده عنه.


" كنتُ أتساءل عن الشيء الذي تمسكه بإحكام هكذا، أهو دليل الكهرباء؟ "


حاول كيهاتشي استعادة الكتاب ولكنّ سيروكو أحبط محاولته وفتحه. 


" 6: النقل الكهربائي : ينقل الأشياء تلقائيًا بسلكٍ كهربائي "


كان سيروكو يضحك ولكن عندما فتح الصفحة التالية توقّف ضحكه ورفع حاجبيه متعجّبًا محدّقًا في الدليل.


" ما هذا؟ إنّ نصفه فارغ "


" ما زلتُ لا أعرف شيئًا عن الكهرباء " قال كيهاتشي ذلك متجهّمًا، "الأمر بمثابة الجنّة، لا أستطيع التفكير في شيء لم أره قطّ!"


" أنت محقّ تمامًا"


ولسبب ما، صار سيروكو بشوش الملامح مادًّا يده والنور من حولها.


" بوسعي أن آخذك إلى الجنّة الآن... "


" ماذا؟ إلى أين؟! "


" إلى الجنّة، فلن تفهم الأمر إلى أن تراه بنفسك. "


" أبوسعي الذهاب حقًا؟!" 


" لا شكّ أنّك تتساءل عن كيف نصل إلى بوذيّة الأرض الطاهرة هذه، إنّها على بعد ساعتين غربًا على متن القطار" 


" لا أظنّ أنّ الجنّة قريبة هكذا من هنا، وأنا لا أودّ مشاهدة مسرحية ما... "


أدرك كيهاتشي مُطأطأ الرأس أنّه نسي شيئًا، فرفع رأسه المحمر وقال :"ماذا أقول لأبي؟"


" ما الذي تعنيه يا هذا؟ اخرج دون علمه ولا تقل له إنّني هنا أساسًا"


" هذا لن يفلح، فسأقع في مشكلة لاحقًا "


" لا تقلق، ثق بي، ستنجو "


ما زال كيهاتشي متردّدًا عندما قال سيروكو : "حسنًا، هيا بنا!" فأنهض الشقيق الأكبرُ الأصغرَ وقال "ستكون في ظلامٍ دامسٍ إن أُوصد هذا المخزن عليك."


أعمت الشمس المشرقة بنورها كيهاتشي الذي خرج من المخزن، فصار يرى خضارة الربيع الماضي على الأشجار في هذا اليوم الصيفي.


" لكنتُ قد ذهبتُ إلى مدينة إيسه كذلك إن كنتُ قادرًا على التزام الصمت " قال كيهاتشي مشتكيًا جالسًا على مقعد القطار الصلب.


" هيّا يا أخي!" ضحك سيروكو.


عندما كانت زيارة النّاس لمدينة إيسه في الماضي أمرًا شائعًا، كان المتدرّبين والزوجات يتسلّلون من منازلهم قاصدين إيسه، وكان دارجًا بين النّاس لفظ (نوكيماري) والذي يعني التسلّل ويخلطون بينه وبين (أوكاغيماري) والذي يعني الشكر، ويُفترض أنّ فعلهم هذا من شأنه أن يجعل عملهم بعد عودتهم منها ناجحًا.



" لربّما سيسامحني والدي إن ذهبتُ إلى إيسه، ولكنّ يبدو أنّ المكان الذي نقصده لا وجود له هنا. "


" أستتفاجأ بالمكان الذي سأصطحبك إليه؟ "


بعد أن أمهل نفسه وقتًا قليلًا للتفكير، فكّر كيهاتشي بشوارع فرنسا التي رآها في طابع بريدي، جمال وبياض قوس النصر وروعة قصر فرساي المزيّن وبرج إيفل الذي امتدّ نحو السماء، ما فكّر فيه كان مكانًا مختلفًا جدًا عن اليابان وما كان كيهاتشي أنّ يعرف أن لمكان كهذا وجودًا في هذا العالم ما لم يره بنفسه.


" سأتفاجأ إن اصطحبتني إلى فرنسا..." ضحك على فكرته، ولكن تبجّح سيروكو قائلًا: "أنت محقٌ تمامًا"


بعد بضع ساعات، وصل كيهاتشي إلى فرنسا، أذهله الشيء الذي قدّامه والذي يشبه قوس النصر في باريس، بلا شكّ قد نزل في منطقة أوميدا بأوسكا ومن ثمّ سار إلى تينوجي.


" يا لها من مفاجأة! " قال سيروكو الذي يقف بجانبه متفاخرًا "إنّه موقع المعرض الصناعيّ الوطنيّ الخامس "



أُقيمت خمسة معارض وطنيّة صناعيّة في اليابان منذ استعراش مييجي، ومنذ انفتاح اليابان على الدول الأخرى صارت تحتضن التقنيات الجديدة من الدول حتى تصطف في صفوف الدول المتقدمة وتنافس الغرب وكانت تسلك تدريجيًا طريقها لتكون أمّةً عظيمة، ولكن اليابان كانت تعجز عن منافسة الغرب في بضعة أمور، وإحداها المعارض الوطنيّة.


كانت الدول الغربيّة تقيم المعرض العالمي لتسلّط الضوء على آخر التقنيات وتروّج صناعاتها ولكنّ اليابان لم تكن من ضمنها لافتقارها التقنيّات الحديثة، ولهذا اكتفت اليابان بإقامة معرضها الخاص والمسمّى بـ "المعرض الصناعيّ الوطني" ويذيع صيته بمرور الأيام وفي هذا العام الموافق 1903م (السنة الـ36 في حقبة مييجي) أُقيم المعرض الخامس ويقال إنّه أكبرها في التاريخ وأُقيم في تينوجي بأوساكا.


لم يعلم كيهاتشي ذلك حتى وقتٍ قريب، ولهذا بدا له الأمر وكأنّه نُقل إلى عالم الأرواح مستعينًا بالتذكرة التي اشتراها له شقيقه سيروكو، فعبر بها البوابة ورأى الشارع الرئيس الذي في وسطه حوض أزهارٍ ونافورة وكانت جادّة الطريق مزدحمة بالزوار وعلى جانبيه مبانٍ على الطراز الغربيّ مزيّنة.


" يبدو أنّ كلّ شيء موجود في قاعات المعرض، دعنا نلقِ نظرةً على مبنى الآلات هناك أوّلًا"


عندما دخل كيهاتشي قسم الآلات، سمع دويًّا يشبه صرخات وحش، فشمّ رائحة حديد وزيت وبعدها فاحت رائحة صابون وسجائر وعندما نظر وجد آلاتٍ سوداء اللون عند الحوائط تنتج صابونًا وسجائر وغيرها من المنتجات، ويبدو أنّ أغلب الآلات هنا تعمل بالكهرباء، فما كان من كيهاتشي إلّا أن يتفاجأ من قدرة الكهرباء على تشغيل هذه الآلات المختلفة وتشغيل المراوح التي تقلّل من حرارة ورطوبة المبنى، وسرعان ما بدأ كيهاتشي  يعتاد وجود الآلات من حوله.


ولكنّ الرّعب تملّك كيهاتشي في القسم العجيب التالي، ففيه أشياء لم تبدُ منطقيّةً له، فأخافه جهاز التيليغرام اللاسلكي والذي كان يعمل بموجات الرّاديو الخفّية قائلًا: "لقد نلتُ كفايتي وأنا خائف، لنعد إلى البيت!"


عندما رأى سيروكو شقيقه كيهاتشي قلقًا هكذا اصطحبه إلى المسرح المجاور فقال له "لننهِ رحلتنا بهذا."


وبينما كيهاتشي كان قلقًا حيال ما هو قادم ومحاطًا بمقاعد كثيرة وبالعديد من النّاس، أنار ضوءٌ منصّة المسرح وأطربت أغنيةٌ مسامع الحضور وظهرت امرأة غربيّة مرتدية فستانًا أبيض ترقص على أنغامها، كان الفستان فضفاضًا وينفرش كالريشة وأنوارٌ من فوقه تنيره بألوان عدّة ومنها البنفسجي والأزرق.


فُتن كيهاشي فورًا برقصات ألسنة النّار الكهربائيّة والتي كانت تؤدّيها الراقصة والممثلة الجميلة كارمين سيرا والتي كانت تتحرّك كالأزهار وكالفراشات.


" تلك الرقصة كانت مذهلة! ويا للخدع البصريّة!" هتف كيهاتشي بذلك وما زالت الحماسة تتملّكه بعد انتهاء العرض.


" ليس عندي مال كثير" قال سيروكو والذي يبدو خجولًا على غير عادته، فاصطحب أخاه إلى الخارج، وفي ذاك الوقت تحوّل خوف كيهاتشي إلى حماسة.


عند الرواق الذي في مدخل المبنى، كانت كندا تستعرض الفواكه المعلّبة وصناديق الحلوى التي كانت تمتد حتى السقف، نظر كيهاتشي إلى كومة الحلويات بنظرة ملؤها الطمع فقام سيروكو بابتسامةٍ متكلّفة بشراء علبة من الكعكات مزيّنة بشريطٍ أحمر، وبمجرّد أن أخذ كيهاتشي قضمةً امتلأ فمه بالحلاوة والقوام الهشّ.


كانت في المعرض آلة تسمّى دوّامة الخيل وكانت تدور حولها الأحصنة واستمتع بها كيهاتشي جدًا، كان يصرخ فرحًا ويضحك على ظهر الحصان رفقة أطفال آخرين وناضجين طيّبين كذلك.


وبعدما استمتع الاثنان بكلّ أرجاء المعرض ذهبا أخيرًا إلى منصّة مشاهدة عند برج أوباياشي، ولم تقتصر الرؤية من أعلى تلك الشرفة على جميع أرجاء المعرض في الأسفل فقط، بل إن أفق أوساكا ومداخن المصانع تمتد على مرمى البصر كذلك.


 " يا له من منظر يا كيهاتشي! أبوسعك رؤية المناطق المحيطة بكيوتو؟"


" المنظر جميل ولكنّي مبهور من ذاك الصندوق الذي أوصلنا إلى أعلى هنا!"


في برج أوباياشي والذي يبلغ ارتفاعه 50 مترًا وسيلةُ نقلٍ تعرف بـ "المصعد" وتستعمل في الغرب لنقل النّاس أعلى المبنى إلى طابق المشاهدة وكيهاتشي كان متفاجئًا من أريحيّة أن يستقلّه المرء.


" إنّه يعمل بالكهرباء كغيره من الآلات المعروضة. "


" الكهرباء مذهلة، من كان ليظنّ أنّ البشر سيُحملون هكذا إلى أماكن عالية؟"


" ولكنّ اليابان متخلّفة في التقنية، فهذه الأشياء لا شيء مقارنة بمعرض باريس منذ ثلاث سنوات."


كان سيروكو يشير إلى معرض باريس الدولي والذي أقيم في عام 1900م (يوافق العام الـ33 في حقبة مييجي) وقيل إنّ الأرضية فيه كانت متحرّكة وتنقل الناس ويقال إنّ فيه دولابًا دوّارًا يبلغ ارتفاعه 100 متر.


" أودّ زيارة باريس" تنهّد سيروكو ناظرًا المشهد الذي قبالته.


" الآن أودّ تسلق برج إيفل! "


" حسنًا، أخوك الكبير ما زال يحبّ الصعود إلى الأماكن العالية."


زيّن القمر الفضيّ حافّة السماء التي على وشك أن تصير مظلمةً، فاستذكر كيهاتشي ذاك الفلم الصامت الذي شاهده أوّل مرةٍ وكان عنوانه "رحلة إلى القمر" ومستوحى من رواية كتبها المؤلف الفرنسي فيرن، ويتكلّم الفلم عن بعض الرجال الغربيين الذين قد أطلقوا من مدفع في طلقة ضخمةً إلى القمر.


" بعد أن شاهدتُ ذاك الفلم فقدت الرغبة في رؤية الأرنب على القمر لشهرٍ كامل"


" أما زلت تؤمن بوجود الأرنب صانع الموتشي على سطح القمر؟"


ردّ كيهاتشي " بالطبع أنت لا تؤمن بذلك فأنت من قال إنّه ما من وجود لشيءٍ اسمه جنّة"


" أخبرتُك أنّي لا أومن إلّا بما أراه. "


" لا تؤمن بوجود الجنّة حتى؟ أين يذهب النّاس إذن بعد مماتهم إن لم يكن للجنّة وجودًا؟"


أجاب سيروكو أخاه " لا أعلم." واضعًا يده على رأس أخيه والذي كانت عيناه واسعتين وقلقتين. 

" ولكنّي سأذهب إلى القمر إن متُّ، سأذهب إلى القمر ألا وهو أعلى مكانٍ وسأرى هل الأرنب صانع الموتشي موجودٌ فعلًا" قال سيروكو ذلك مبتسمًا بابتسامته المعتادة، ولكنّ كيهاتشي ظنّ أنّها تحمل مرارةً بعض الشيء، غربت الشمس كليًا وتلاشت ألوانها من جهة غروبها وحلّ الليل تقريبًا.


نزل الاثنان من البرج واتّجها إلى البوابة الرئيسة ليعودا إلى البيت، فدقّت أجراس إغلاق المكان فخرج الزوّار من قاعات المعرض إلى الشارع الرئيس. 


كان كيهاتشي مضطربًا بسبب غرابة المكان عليه بعد غروب الشمس فأراد العودة إلى بيته بسرعة ولكنّ سيروكو كان يمشي ببطء وكأنّه كان متعمدًّا أن يجعل الأمور أسوأ فتوقّف فجأة وكيهاتشي كان في حيرة.


" آسف ولكنّي مضطر للذهاب إلى الحمّام."


كان كيهاتشي على وشك معارضته ولكنّه خشى أن يسخر شقيقُه منه بسبب خوفه ولكنّه أومأ كرهًا ومن ثمّ ذهب سيروكو مسرعًا قائلًا: "سأعود خلال خمس دقائق تقريبًا!"


جلس كيهاتشي على المقعد المتاخم للنافورة وفتح علبة الكعكات التي اشتراها أخوه عند المعرض الكندي، شعر بالإحباط عندما علم أنّ الشريط الأحمر الذي كان يقفل العلبة قد فُقد ولكن سرعان ما اختفى حزنه عندما رأى الكعكات وسرعان ما انقضت الخمس دقائق عندما كان يأكل الكعكات الصغيرة اللذيذة.


" ربّما جميع الحمّامات مزدحمة. "


أكل جميل الكعكات وانتظر 15 دقيقة ومن ثمّ 30 دقيقة وإلى أن صارت 40 دقيقة، وحينها صار يدرك أنّ مكروهًا قد وقع فنهض من المقعد وصار ينظر في الأرجاء ولكن لم يعرف أحدًا من ضمن الحشود.


غربت الشمس كليًا وما عاد لها أثر، والمباني صارت تُصبغ بالظلام وصار كيهاتشي يشعر بالبرد وبعدم الرّاحة.


"سيروكو!"


حاول الصراخ عاليًا ولكن ما من ردٍّ، وعندما أدرك أنّه صار وحيدًا يجهل كيفية العودة إلى المنزل وحده اصطكّت أسنانه وفاض الدمع من عينيه، كان يتساءل كرهًا في نفسه أسيعود إلى منزله، فلم يهمّه شيء سوى العودة إلى منزله سالمًا. كان يخشى أن يهاجمه أحد يتربّص به من تلك الظلمات، فقام بالجلوس ضامًّا ركبتيه إلى وجهه وصار يدعو أميدا نيوري، وإيسه أميدا ويدعو لكلّ أحد...


" فليزح أحدكم هذا الظلام رجاءً"


❀❀❀❀


معبد إناري، إله التجارة الشهير، الكائن عند جبل إناري بفوشيمي بكيوتو. وإلى جانب المعبد الرئيس عند أسفل الجبل انتشرت معابد صغيرة في أرجائه. كان شائعًا حتى في عام 1907م (عام 40 في حقبة مييجي) أن يعبد النّاس آلهة وأرواح موطنهم ولهذا تجد العديد منهم في تلك المعابد الصغيرة.


تخلّلت الطريق المؤديّة إلى المعبد عدّة بوّابات حمراء تبدو لشاهدها من الأعلى كالغرزات. وكانت في الأثناء إناكو موموكاوا تصعد الطريق المنحدر متحمّلةً شدّة حرارة أغسطس.


كانت ترتدي الكيمون المخطّط بالأزرق ووشاحًا أحضرًا حوله ومشبكًا يبدو كفأر وكيس أرز، وضفيرة خلف رأسها تتدلّى يمينًا وشِمالًا أثناء مشيها. وتُسمع أصوات حشرات الزيز الموجودة على الفروع والأوراق وأصوات دعاء النّاس الصادرة من المعابد القريبة وصوت فردتي الغيتا التي تنتعلها.


من ذاك المفترق على التلّة، صعدت إناكو السلالم الطويلة عابرةً منطقة مكتظّة بالمعابد الصغيرة وخرجت إلى منطقة مفتوحة نوعًا ما، ومن هناك رأت قطار كيودين يعبر سكّة كيوتو الحديديّة الكهربائية ومن فوق جسر نهر كامو، فتجاوز مقرّ فوج المشاة الثامن والثلاثين ومحطّة شيتشيجو وهلمّ جرا. 


هذا المكان الذي يطلّ على إطلالة جميلة معبدٌ يأوي الإله أكوبي. وتظهر على جانب المنحدر الجبلي حجارة وعلى ذاك الحائط الحجري صندوق تبرّعاتٍ صغير وقاعدة منحوتة والعديد من البوّابات الحمراء وتبرّعات النّاس من حولها.


واجهت إناكو المعبد وتبرّعت بمالٍ في الصندوق وصفّقت مرّتين ومن ثمّ أخذت نفسًا عميقًا.


" أرجو أن أحسن عملًا في المرة القادمة. "


أغلقت عينيها وحكّت كفّيها. "'أرجو ألّا أكون خرقاء، وأرجو ألّا يغضب والدي منّي هذه المرّة، وأرجو ألّا تنقطع أوتار الشامسين أثناء الدرس، وأرجو أن أكون كأختي الكبيرة وأيضًا..."


وبعد أن دعت بهذا واصلت إناكو الدعاء هامسةً...


انبعثت رائحة الشموع وتداخل صوت إناكو بصوت أزيز حشرات الزيز وأحسّت بالرّاحة والسكينة، ومن ثمّ سمعت موسيقا تصدر من مكانٍ ما، استمرّت في تلاوة الدعاء وهي تحاول البحث عن مصدر الصوت متساءلة هل في الارجاء قاعة تحوي إله الترفيه كاغورا، ولكنّ اتضح أنّ الموسيقا تصدر من الرزمة عند حافة المنحدر الحجري.


وعندما نظرت إناكو إلى أعلى توقّف الصوت ومن ثمّ سمعت صرخة شخصٍ، رأت الأجمة تهتزّ ومن ثمّ تزحلق منها فتى.


صرخ الفتى وهو يسقط وهدايا النّاس انتشرت من حوله عندما سقط مباشرةً على مؤخرته. من ثمّ نام على الأرض متوجّعًا ضامًّا آلة تبدو كصندوق إلى صدره، فغطّت إناكو فمها مبهورةً ممّا رأت.